كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قلت: يعجبني ما جلست وما قعدت وما انطلق زيد كان غثا من الكلام لخروج ما عن الإبهام ووقوعها على ما لا يتنوع من المعاني لأنه يكون التقدير يعجبني الجلوس الذي جلست والقعود الذي قعدت فيكون آخر الكلام مفسرا لأوله رافعا للإبهام فلا معنى حينئذ لـ: ما فأما قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} فلأن المعصية تختلف أنواعها وقوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} فهو كقولك: لأعاقبنك بما ضربت زيدا وبما شتمت عمرا أوقعتها على الذنب والذنب مختلف الأنواع ودل ذكر المعاقبة والمجازاة على ذلك وكأنك قلت لأجزينك بالذنب الذي هو ضرب زيد أو شتم عمرو ف ما على بابها غير خارجة عن بابها هذا كلامه وليس كما زعم رحمه الله فإنه لا يشترط في كونها مصدرية ما ذكر من الإبهام بل تقع على المصدر الذي لا تختلف أنواعه بل هو نوع واحد فإن إخلافهم ما وعد الله كان نوعا واحدًا مستمرا معلوما وكذلك كذبهم وأصرح من هذا كله قوله تعالى: {كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} فهذا مصدر معين خاص لا إبهام فيه بوجه وهو علم الكتاب ودرسه وهو فرد من أفراد العمل والصنع فهو كما منعه من الجلوس والقعود والانطلاق ولا فرق بينهما في إبهام ولا تعيين إذ كلاهما معين متميز غير مبهم ونظيره {بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} [الأنعام 93] فاستكبارهم وقولهم على الله غير الحق مصدران معينان غير مبهمين واختلاف أفرادهما كاختلاف أفراد الجلوس والانطلاق ولو أنك قلت في الموضوع الذي منعه هذا بما جلست وهذا بما نطقت كان حسنا غير غث ولا مستكره وهو المصدر بعينه فلم يكن الكلام غثا بخصوص المصدر وإنما هو لخصوص التركيب فإن كان بقدر امتناعه واستكراهه إذا صنعته في تركيب آخر زالت الكراهية والغثاثة عنه كما رأيت ما الموصولة والتحقيق أن قوله يعجبني ما تجلس وما ينطلق زيد إنما استكره وكان غثا لأن ما المصدرية والموصولة يتعاقبان غالبا ويصلح أحدهما في الموضع الذي يصلح فيه الآخر وربما احتملها كلام واحد ولا يميز بينهما فيه إلا بنظر وتأمل فإذا قلت يعجبني ما صنعت فهي صالحة لأن تكون مصدرية أو موصولة وكذلك والله عليم بما يفعلون والله بصير بما يعملون فتأمله تجده كذلك ولدخول أحداهما على الأخرى ظن كثير من الناس أن قوله تعالى: {وَاللَّهُ خلقكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أنها مصدرية واحتجوا بها على خلق الأعمال وليست مصدرية وإنما هي موصولة والمعنى والله خلقكم وخلق الذي تعملونه وتنحتونه من الأصنام فكيف تعبدونه وهو مخلوق لله ولو كانت مصدرية لكان الكلام إلى أن يكون حجة لهم أقرب من أن يكون حجة عليهم إذ يكون المعنى أتعبدون ما تنحتون والله خلق عبادتكم لها فأي معنى في هذا وأي حجة عليهم والمقصود أنه كثيرا ما تدخل أحداهما على الأخرى ويحتملها الكلام سواء وأنت لو قلت يعجبني الذي يجلس لكان غثا من المقال إلا أن تأتي بموصوف يجري هذا صفة له فتقول يعجبني الجلوس الذي تجلس وكذلك إذا قلت يعجبني الذي ينطلق زيد كان غثا فإذا قلت يعجبني الانطلاق الذي ينطلق زيد كان حسنا فمن هنا يعجبني ما ينطلق وما تجلس إذا أردت به المصدر وأنت لو قلت آكل ما يأكل كانت موصولة وكان الكلام حسنا فلو أردت بها المصدرية والمعنى آكل أكلك كان غثا حتى تأتي بضميمة تدل على المصدر فتقول آكل كما يأكل فعرفت أنه لم يكن الاستكراه الذي أشار إليه من جهة الإبهام والتعيين فتأمله وأما طالما يقوم زيد وقل ما يأتي عمرو ف ما هنا واقعة على الزمان والفعل بعدها متعد إلى ضميره بحرف الجر والتقدير طال زمان يقوم فيه زيد وقل زمان يأتينا فيه عمرو ثم حذف الضمير فسقط الحرف هذا تقدير طائفة من النحاة منهم السهيلي وغيره ويحتمل عندي تقديرين آخرين هما أحسن من هذا أحدهما أن تكون مصدرية وقتية والتقدير طال قيام زيد وقل إتيان عمرو وإنما كان هذا أحسن لأن حذف العائد من الصفة قبيح بخلاف حذفه إذا لم يكن عائدا على شيء فإنه أسهل وإذا جعلت مصدرية كان حذف الضمير حذف فضلة غير عائد على موصوف والتقدير الثاني وهو أحسنها أن ما هاهنا مهيأة لدخول الفعل على الفعل ليست مصدرية ولا نكرة وإنما أتى بها لتكون مهيأة لدخول طال على الفعل فإنك لو قلت طال يقوم زيد وقل يجني عمرو لم يجز فإذا أدخلت ما استقام الكلام وهذا كما دخلت على رب مهيأة لدخولها على الفعل نحو قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} وكما دخلت على إن مهيأة لدخولها على الفعل نحو: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فإذا عرفت هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي». رواه البخاري ومسلم هو من هذا الباب ودخلت ما بين كاف التشبيه وبين الفعل مهيأة لدخولها عليه في كافة للخافض ومهيأة له أن تقع بعد الفعل وهذا قد خفي على أكثر النحاة حتى ظن كثير منهم أن ما هاهنا مصدرية وليس كما ظن فإنه لم يقع التشبيه بالرؤية وأنت لو صرحت بالمصدر هنا لم يكن كلاما صحيحا فإنه لو قيل صلوا كرؤيتكم صلاتي لم يكن مطابقا للمعنى المقصود فلو قيل إنها موصولة والعائد محذوف والتقدير صلوا كالتي رأيتموني أصلي أي كالصلوات التي رأيتموني أصليها كان أقرب من المصدرية على كراهته فالصواب ما ذكرته لك ونظير هذه المسألة قوله للصديق (كما أنت) رواه الطبراني فأنت مبتدأ والخبر محذوف فلا مصدر هنا إذ لا فعل فمن قال إنها مصدرية فقد غلط وإنما هي مهيأة لدخول الكاف على ضمير الرفع والمعنى كما أنت صانع أو كما أنت مصل فدم على حالتك ونظير ذلك أيضا وقوعها بين بعد والفعل نحو قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} ليست مصدرية كما زعم أكثر النحاة بل هي مهيأة لدخول بعد على فعل كاد إذ لا يصاغ من كاد وما مصدر إلا أن يتجشم له فعل بمعناه يسبك منها ومن ذلك الفعل مصدر وعلى ما قررناه لا يحتاج إلى ذلك ويؤيد هذا قول الشاعر:
أعلاقة أم الوليد بعدما ** أفنان رأسك كالثغام المخلس

أفلا تراها هاهنا حيث لا فعل ولا مصدر أصلا فهي كقوله كما أنت مهيأة لدخول بعد على الجملة الابتدائية ولكن الخبر في البيت مذكور وهو في قوله كما أنت محذوف فإن قلت: فما بالهم لم يدخلوها في قبل كافة لها مهيأة لدخولها على الفعل والجملة قبلما يقوم زيد وقبل ما زيد قائم قلت لا تكون ما كافة لأسماء الإضافة وإنما تكون كافة للحروف وبعد أشد مضارعة للحروف من قبل لأن قبل كالمصدر في لفظها ومعناها تقول جئت قبل الجمعة تريد الوقت الذي تستقبل في الجمعة فالجمعة بالإضافة إلى ذلك الوقت قابله كما قال الشاعر:
نحج معا قالت أعاما وقابله ** فإذا كان العام الذي بعد عامك

يسمى قابلا فعامك الذي أنت فيه قبل ولفظه من لفظ قابل فقد بان لك من جهة اللفظ والمعنى أن قبل مصدر في الأصل والمصدر كسائر الأسماء لا يكف به ولا يهيأ لدخول الجمل بعد وإنما ذلك في بعض الحروف العوامل لا في شيء من الأسماء وأما بعد فهي أبعد عن شبه المصدر وإن كانت تقرب من لفظ بعد ومن معناه فليس قربها من لفظ المصدر كقرب قبل ألا ترى أنهم لم يستعملوا من لفظها اسم فاعل فيقولون للعام الماضي الباعد كما قالوا للمستقبل القابل فإن قلت: فما تقول في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} وقوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} وقوله: {وَأحسن كَمَا أحسن اللَّهُ إِلَيْكَ} فإنها لا يمتنع فيها تقدير المصدر في هذه المواضع كلها فهل هي كافة مهيأة أو مصدرية قلت التحقيق أنها كافة لحرف التشبيه عن عمله مهيأة لدخوله على الفعل ومع هذا فالمصدر ملحوظ فيها وإن لم تكن مصدرية محضة ويدل على أن ما لا تقع مصدرية على حد أنك تجدها لا تصلح في موضع تصلح فيه أن فإذا قلت أريد أن تقوم كان مستقيما فلو قلت أريد ما تقوم لم يستقم وكذلك أحب أن تأتيني لا تقول موضعه أحب ما تأتيني وسر المسألة: أن المصدرية ملحوظ فيها معنى الذي كما تقدم بخلاف أن فإن قلت: فما تقول في كما قمت أكرمتك أمصدرية هنا أم كافة أم نكرة قلت هي هاهنا نكرة وهي ظرف زمان في المعنى والتقدير كل وقت تقوم فيه أكرمك فإن قلت: فهلا جعلتها كافة لإضافة كل إلى الفعل مهيأة لدخولها عليه قلت: ما أحراها بذلك لولا ظهور الظرف والوقت وقصده من الكلام فلا يمكن إلغاؤه مع كونه هو المقصود ألا ترى أنك تقول كل وقت يفعل كذا أفعل كذا فإذا قلت كلما فعلت وجدت معنى الكلامين واحدًا وهذا قول أئمة العربية وهو الحق.
فصل:
قال أبو القاسم السهيلي: اعلم أن ما إذا كانت موصولة بالفعل الذي لفظه عمل أو صنع أو فعل وذلك الفعل مضاف إلى فاعل غير الباري سبحانه فلا يصح وقوعها إلا على مصدر لإجماع العقلاء من الأنام في الجاهلية والإسلام على أن أفعال الآدميين لا تتعلق بالجواهر والأجسام لا تقول عملت جملا ولا صنعت جبلا ولا حديدا ولا حجرا ولا ترابا فإذا قلت: أعجبني ما عملت وما فعل زيد فإنما يعني الحدث فعلى هذا لا يصح في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خلقكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} إلا قول أهل السنة أن المعنى والله خلقكم وأعمالكم ولا يصح قول المعتزلة من جهة المنقول ولا من جهة المعقول لأنه زعموا أن ما واقعة على الحجارة التي كانوا ينحتونها أصناما وقالوا: تقدير الكلام خلقكم والأصنام التي تعملون إنكارا منهم أن تكون أعمالنا مخلوقة لله سبحانه واحتجوا بأن نظم الكلام يقتضي ما قالوا لأنه تقدم قوله: {قال أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} فما واقعة على الحجارة المنحوتة ولا يصح غير هذا من جهة النحو ولا من جهة المعنى أما النحو فقد تقدم أن ما لا تكون مع الفعل الخاص مصدرا وأما المعنى فإنهم لم يكونوا يعبدون النحت وإنما كانوا يعبدون المنحوتات فلما ثبت هذا وجب أن تكون الآية التي هي رد عليهم وتقييد لهم واقعة على الحجارة المنحوتة والأصنام المعبودة ويكون التقدير تعبدون حجارة منحوتة والله خلقكم وتلك الحجارة التي تعملون هذا كله معنى قول المعتزلة وشرح ما شبهوا به والنظم على تأويل أهل الحق أبدع والحجة أقطع والذي ذهبوا إليه فاسد محال لأنهم أجمعوا معنا على أن أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام.
فإن قيل: فقد تقول عملت الصحيفة وصنعت الجفنة وكذلك الأجسام معمولة على هذا.
قلنا: لا يتعلق الفعل فيما ذكرتم إلا بالصورة التي هل التأليف والتركيب وهي نفس العمل وأما الجوهر المؤلف المركب فليس بمعمول لنا فقد رجع العمل والفعل إلى الأحداث دون الجواهر هذا إجماع منا ومنهم فلا يصلح حملهم على غير ذلك وأما ما زعموا من حسن النظم وإعجاز الكلام فهو ظاهر وتأويلنا معدوم في تأويلهم لأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يخلق وهم يخلقون فقال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أي من لا يخلق شيئا وهم يخلقون وتدعون عبادة من خلقكم وأعمالكم التي تعملون ولو لم يضف خلق الأعمال إليه في الآية وقد نسبها إليهم بالمجاز لما قامت له حجة من نفس الكلام لأنه كان يجعلهم خالقين لأعمالهم وهو خالق لأجناس أخرى فيشركهم معه في الخلق تعالى الله عن قول الزائغين ولا لعثرات المبطلين فما أدحض حجتهم وما أوهى قواعد مذهبهم وما أبين الحق لمن اتبعه جعلنا الله من أتباعه وحزبه وهذا الذي ذكرنا قاله أبو عبيد في قول حذيفة أن يخلق صانع الجرم وصنعته واستشهد بالآية وخالفه القتيبي في إصلاح الغلط فغلط أشد الغلط ووافق المعتزلة في تأويلها وإن لم يقل بقيلها هذا آخر كلام أبي القاسم ولقد بالغ في رد ما لا تحتمل الآية سواه أو ما هو أولى بحملها وأليق بها ونحن وكل محق مساعدوه على الله خالق العباد وأعمالهم وأن كل حركة في الكون فالله خالقها وعلى صحة هذا المذهب أكثر من ألف دليل من القرآن الكريم والسنة والمعقول والفطر ولكنه لا ينبغي أن تحمل الآية على غير معناها اللائق بها حرصا على جعلها عليهم حجة ففي سائر الأدلة غنية عن ذلك على أنها حجة عليهم من وجه آخر مع كون ما بمعنى الذي سنبينه إن شاء الله تعالى والكلام إن شاء الله تعالى في الآية في مقامين أحدهما في سلب دلالتها على مذهب القدرية والثاني في إثبات دلالتها على مذهب أهل الحق خلاف قولهم فهاهنا مقامان مقام إثبات ومقام سلب فأما مقام السلب فزعمت القدرية أن الآية حجة لهم في كونهم خالقين أعمالهم قالوا لأن الله سبحانه أضاف الأعمال إليهم وهذا يدل على أنهم هم المحدثون لها وليس المراد هاهنا نفس الأعمال بل الأصنام المعمولة فأخبر سبحانه أنه خالقهم وخالق تلك الأصنام التي عملوها والمراد مادتها وهي التي وقع الخلق عليها وأما صورتها وهي التي صارت بها أصناما فإنها بأعمالهم وقد أضافها إليهم فتكون بأحداثهم وخلقهم فهذا وجه احتجاجهم بالآية وقابلهم بعض المثبتين للقدر وأن الله هو خالق أفعال العباد فقالوا الآية صريحة في كون أعمالهم مخلوقة لله فإن ما هاهنا مصدرية والمعنى والله خلقهم وخلق أعمالهم وقرروه بما ذكره السهيلي وغيره ولما أورد عليهم القدرية كيف تكون ما مصدرية هنا وأي وجه يبقى للاحتجاج عليهم إذا كان المعنى والله خلقكم وخلق عبادتكم وهل هذا إلا تلقين لهم الاحتجاج بأن يقولوا فإذا كان الله قد خلق عبادتنا للأصنام فهي مرادة له فكيف ينهانا عنها وإذا كانت مخلوقة فكيف يمكننا تركها فهل يسوغ أن يحتج على إنكار عبادتهم أجابهم المثبتون بأن قالوا لو تدبرتم سياق الآية ومقصودها لعرفتم صحة الاحتجاج فإن الله سبحانه أنكر عليهم عبادة من لا يخلق شيئا أصلا وترك عبادة من هو خالق لذواتهم وأعمالهم فإذا كان الله خالقكم وخالق أعمالكم فكيف تدعون عبادته وتعبدون من لا يخلق شيئا لا ذواتكم ولا أعمالكم وهذا من أحسن الاحتجاج وقد تكرر في القرآن الإنكار عليهم أن يعبدوا ما لا يخلق شيئا وسوى بينه وبين الخالق لقوله: {أَفَمَنْ يَخلق كَمَنْ لا يَخلق أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخلقونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخلقونَ} وقوله: {هَذَا خلق اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خلق الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} إلى أمثال ذلك فصح الاحتجاج وقامت الحجة بخلق الأعمال مع خلق الذوات فهذا منتهى إقدام الطائفتين في الآية كما ترى والصواب أنها موصولة وأنها لا تدل على صحة مذهب القدرية بل هي حجة عليهم مع كونها موصولة وهذا يبين بمقدمة نذكرها قبل الخوض في التقرير وهي أن طريقة الحجاج والخطاب أن يجرد القصد والعناية بحال ما يحتج له وعليه فإذا كان المستدل محتجا على بطلان ما قد ادعى في شيء وهو يخالف ذلك فإنه يجرد العناية إلى بيان بطلان تلك الدعوى وأن ما ادعى له ذلك الوصف هو متصف بضده لا متصف به فإما أن يمسك عنه ويذكر وصف غيره فلا وإذا تقرر هذا فالله سبحانه أنكر عليهم عبادتهم الأصنام وبين أنها لا تستحق العبادة ولم يكن سياق الكلام في معرض الإنكار عليهم ترك عبادته وأن ما هو في معرض الإنكار عبادة من لا يستحق العبادة فلو أنه قال لا تعبدون الله وقد خلقكم وما تعملون لتعينت المصدرية قطعا ولم يحسن أن يكون بمعنى الذي إذ يكون المعنى كيف لا تعبدونه وهو الذي أوجدكم وأوجد أعمالكم فهو المنعم عليكم بنوعي الإيجاد والخلق فهذا وزان ما قرروه من كونها مصدرية فأما سياق الآية فإنه في معرض إنكاره عليهم عبادة من لا يستحق العبادة فلابد أن يبين فيه معنى ينافي كونه معبودا فبين هذا المعنى بكونه مخلوقا له ومن كان مخلوقا من بعض مخلوقاته فإنه لا ينبغي أن يعبد ولا تليق به العبادة وتأمل مطابقة هذا المعنى لقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخلقونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخلقونَ} كيف أنكر عليهم عبادة آلهة مخلوقة له سبحانه وهي غير خالقة فهذا يبين المراد من قوله: {وَاللَّهُ خلقكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ونظيره قوله في سورة الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} أي هم عباد مخلوقون كما أنتم كذلك فكيف تعبدون المخلوق وتأمل طريقة القرآن لو أراد المعنى الذي ذكروه من حسن صفاته وانفراده بالخلق كقول صاحب يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} فهنا لما كان المقصود إخبارهم بحسن عبادته واستحقاقه لها ذكر الموجب لذلك وهي كونه خالقا لعابده فاطرا له وهذا إنعام منه عليه فكيف يترك عبادته ولو كان هذا هو المراد من قوله: {وَاللَّهُ خلقكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} كان يقتضي أن يقال: ألا يعبدون الله وهو خالقهم وخالق أعمالهم فتأمل فإنه واضح وقول أبي القاسم في تقرير حجة المعتزلة من الآية أنه لا يصح أن تكون مصدرية وهو باطل من جهة النحو وليس كذلك أما قوله إن ما لا تكون مع الفعل الخاص مصدرا فقد تقدم بطلانه إذ مصدريتها تقع مع الفعل الخاص المبهم لقوله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} وقوله: {وَأَنْتُمْ تتلُونَ الْكِتَابَ} وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} إلى أضعاف ذلك فإن هذه كلها أفعال خاصة وهي أخص من مطلق العمل فإذا جاءت مصدرية مع هذه الأفعال فمجيئها مصدرية مع العمل أولى وقولهم إنهم لم يكونوا يعبدون النحت وإنما عبدوا المنحوت حجة فاسدة فإن الكلام في ما المصاحبة للفعل دون المصاحبة لفعل النحت فإنها لا تحتمل غير الموصولة ولا يلزم من كون الثانية مصدرية كون الأولى كذلك فهذا تقرير فاسد وأما تقريره كونها مصدرية أيضا بما ذكره فلا حجة له فيه أما قوله: أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام فيقال: ما معنى عدم وقوعها على الجواهر والأجسام أتعني به أن أفعالهم لا تتعلق بإيجادها أم تعني به أنها لا تتعلق بتغييرها وتصويرها أم تعني به أعم من ذلك.
وهو المشترك بين القسمين فإن عنيت الأول فمسلم لكن لا يفيدك شيئا فإن كونها موصولة لا تستلزم ذلك فإن كون الأصنام معمولة لهم لا يقتضي أن تكون مادتها معمولة لهم بل هو على حد قولهم عملت بيتا وعملت بابا وعملت حائطا وعملت ثوبا وهذا إطلاق حقيقي ثابت عقلا ولغة وشرعا وعرفا لا يتطرق إليه رد فهذا ككون الأصنام معمولة سواء وإن عنيت أن أفعالهم لا تتعلق بتصويرها فباطل قطعا وإن عنيت القدر المشترك فباطل أيضا فإنه مشتمل على نفي حق وباطل فنفي الباطل صحيح ونفي الحق باطل ثم يقال إيقاع العمل منهم على الجواهر والأجسام يجوز أن يطلق فيه العمل الخاص وشاهده في الآية {أتعبدون ما تنحتون} فما هاهنا موصولة فقد أوقع فعلهم وهو النحت على الجسم وحينئذ فأي فرق بين إيقاع أفعالهم الخاصة على الجوهر والجسم وبين وإيقاع أفعالهم العامة عليه لا بمعنى أن ذاته مفعولة له بل بمعنى أن فعلهم هو الذي صار به صنما واستحق أن يطلق عليه اسمه كما أنه بعملهم صار منحوتا واستحق هذا الاسم وهذا بين وأما قوله: بجواب النقض بـ: عملت الصحيفة وصنعت الجفنة أن الفعل متعلق بالصورة التي هي التأليف والتركيب وهي نفس العمل فكذلك هو أيضا متعلق بالتصوير الذي صار الحجر به صنما منحوتا سواء وأما قوله الآية في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق فقد تقدم جوابه وأن الآية وردت لبيان عدم استحقاق معبوديهم للعبادة لأنها مخلوقة لله وذكرنا شواهده من القرآن.
فإن قيل: كان يكفي في هذا أن يقال أتعبدون ما تنحتون والله خالقه فلما عدل إلى قوله: {وَاللَّهُ خلقكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} علم أنه أراد الاحتجاج عليهم في ترك عبادته سبحانه وهو خالقهم وخالق أفعالهم قيل في ذكر خلقه سبحانه لآلهتهم ولعابديها من بيان تقبيح حالهم وفساد رأيهم وعقولهم في عبادتها دونه تعالى ما ليس في الاقتصار على ذكر خلق الآلهة فقط فإنه إذا كان الله تعالى هو الذي خلقكم وخلق معبوديكم فهي مخلوقة أمثالكم فكيف يعبد العاقل من هو مثله ويتألهه ويفرده بغاية التعظيم والإجلال والمحبة وهل هذا إلا أقبح الظلم في حق أنفسكم وفي حق ربكم وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} ومن حق المعبود أن لا يكون مثل العابد فإنه إذا كان مثله كان عبدا مخلوقا والمعبود ينبغي أن يكون ربا خالقا فهذا من أحسن الاحتجاج وأبينه فقد أسفر لك من المعنى المقصود بالسياق صحيحه ووضح لك شرحه وانجلى بحمد الله الإشكال وزال عن المعنى غطاء الإجمال وبان أن ابن قتيبة في تفسير الآية وفق للسداد كما وفق لموافقة أهل السنة في خلق أعمال العباد ولا تستطل هذا الفصل فإنه يحقق لك فصولا لا تكاد تسمعها في خلال المذكرات وتحصل لك قواعد وأصول لا تجدها في عامة المصنفات فإن قيل: فأين ما وعدتم به من الاستدلال بالآية على خلق الله لأعمال العباد على تقدير كون ما موصولة قيل نعم قد سبق (الوعد) بذلك وقد حان إنجازه وآن إبرازه ووجه الاستدلال بها على هذا التقدير أن الله سبحانه أخبر أنه خالقهم وخالق الأصنام التي عملوها وهي إنما صارت أصناما بأعمالهم فلا يقع عليها ذلك الاسم إلا بعد عملهم فإذا كان سبحانه هو الخالق اقتضى صحة هذا الإطلاق أن يكون خالقها بجملتها أعني مادتها وصورتها فإذا كانت صورتها مخلوقة لله كما أن مادتها كذلك لزم أن يكون خالقا لنفس عملهم الذي حصلت به الصورة لأنه متولد عن نفس حركاتهم فإذا كان الله خالقها كانت أعمالهم التي تولد عنها ما هو مخلوق لله مخلوقة له وهذا أحسن استدلالا وألطف من جعل ما مصدرية ونظيره من الاستدلال سواء قوله: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخلقنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} والأصح أن المثل المخلوق هنا هو السفن وقد أخبر أنها مخلوقة وهي إنما صارت سفنا بأعمال العباد وأبعد من قال إن المثل هاهنا هو سفن البر وهي الإبل لوجهين.
أحدهما: أنها لا تسمى مثلا للسفن لا لغة ولا حقيقة فإن المثلين ما سد أحدهما مسد الآخر: وحقيقة المماثلة أن يكون بين فلك وفلك لا بين جمل وفلك الثاني أن قوله: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} عقب ذلك دليل على أن المراد الفلك التي إذا ركبوها قدرنا على إغراقهم فذكرهم بنعمه عليهم من وجهين.
أحدهما: ركوبهم إياها.
والثاني: أن يسلمهم عند ركوبها من الغرق ونظير هذا الاستدلال أيضا قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خلق ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} والسرابيل التي يلبسونها وهي مصنوعة لهم وقد أخبر بأنه سبحانه هو جاعلها وإنما صارت سرابيل بعملهم ونظيره: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا} والبيوت التي من جلود الأنعام هي الخيام وإنما صارت بيوتا بعملهم فإن قلت: المراد من هذا كله المادة لا الصورة قلت: المادة لا تستحق هذه الأسماء التي أطلق الخلق عليها وإنما تستحق هذه الأسماء بعد عملها وقيام صورها بها وقد أخبر أنها مخلوقة له في هذه الحال والله أعلم. اهـ.